نموذج الـ MVP للمشاريع ..


تجنب خسائرك بخطوة بسيطة

ربما هي قصة الفشل الأكثر شهرة في عالم ريادة الأعمال: تقفز في ذهنك فكـرة رائعة قمت بدراستها من كافة الجوانب وتأكد لك أنها ستعود عليك بأرباح كبرى، تتحمّس وتكتب خطة عمل مفصّلة ثم تبدأ رحلة البحث عن مستثمـرين، وربما تجد بعضهم منفتحا لتمويلك بشكل سريع، ثم تبدأ في تأسيس مشروعك على مهل وأنت مليء بالانفعالات والأحلام.

  

لا مجال للأخطاء. تستعين بأفضل المبرمجين والمصممين، كلما حددت موعد الإطلاق قمت بتأجيله حتى يظهر المشروع بشكل أفضل وبأخطاء أقل ليكتسح الأسواق من الضربة الأولى، ولا يترك مجالا للمنافسين أن يلحقوا بك إلا بعد فترة طويلة. يزداد تأخرك، يزداد إنفاقك على المشروع، تزداد أعباؤك، تزداد الضغوط. أخيـرا، تقـرر إطلاق مشروعك الريادي للأسواق بعد أن قمت بصنـاعة أفضل نسخة منه على الإطلاق.

تمضي الأيام الأولى بصخبها، ثم تمرّ عدة أشهر فتبدأ الصورة تتضح. المشروع العبقري الذي بذلت فيه جهدا هائلا وأموالا طائلة لا يبدو عبقريا إلى هذا الحد بالنسبة للمستخدمين، التصاميم الرائعة التي وضعتها لا تبدو مُرضية لهم. طريقة الاستخدام الإبداعية التي خططت لها أسابيع طويلة، يراها الأغلبية "سخيفة" وغير مُجدية. المشروع نفسه لا يثير اهتمام الشرائح المُستخدمة بالشكل الكافي، ولا يريدون أن يدفعوا قرشا مقابل أن ينالوا هذه الخدمة "العبقرية".

  

ضاع الوقت وضاع المجهود وضاع المال على مشروع اعتبرته أنت عبقـريا، وبالغت في تطويره متوهما بأنه سيكتسح الأسواق من الضربة الأولى، إلا أن مصيره انتهى بالفشل. إلى هنا، تبدو قصة الفشل هذه شهيرة للغاية في عالم ريادة الأعمال، ولكن الأكثر مدعاة للأسف أنه كان بإمكانك أن تتجنّب كل هذه الخسائر بخطوة بسيطة للغاية، خطوة اسمها الـ "MVP".

  

الـ MVP .. الحد الأدنى من قابلية المنتج للحيـاة

على الرغم من أنه لا يمكن اعتباره قطعا مصطلحا جديدا كليا في عالم ريادة الأعمال، فإن إعادة تعريفه بهذا الشكل تعود إلى إريك ريس مؤلف كتاب "الشركة الناشئة المرنة" (The Lean startup) الذي صدر في العام 2011 تجميعة لمقالات تستعرض رؤية الكاتب ورائد الأعمال بخصوص تأسيس المشروعات الناشئة بشكل مرن يتماشى مع صرعة ريادة الأعمال التي أصيب بها العالم بشكل متسارع مع مطلع الألفية الجديدة بانفجار ثورة الإنترنت والاتصالات والعالم التقني. (1)

 

الـ "MVP" -وهو محور الكتاب- هو اختصار لجملة (Minimum Viable Product) أو ما يعني الحد الأدنى للمنتج الذي يحدد مدى قابليته للحياة، أي إنه النموذج الأوّلي الأبسط من أي منتج أو خدمة الذي يتم تقديمه للجمهور بأبسط شكل مُركّزا على استعراض القيمة الأساسية (Value)، ليس لأغراض تشغيلية وإنما لجسّ نبض السوق -بما يُعرف بالـ "Market Testing"- لمعرفة إن كان هذا المُنتج سيكون له زبائنه أم لا، ومن ثمّ يتم إعادة تشغيله وتطويره وفقا لمعطيات التغذية الراجعة (Feedback) لاحقا.

 

بمعنى آخر، الـ "MVP" يعني إطلاق نسخة مُبسّطة لفكـرتك بأقل قدر من الموارد وأبسطها بهدف اختبار السوق أولا، ومعرفة إن كان يحتاج إلى منتجك هذا أم لا، ومن ثمّ إما تطويره وإما تعديله وإما التوقف أصلا عن المشروع بناء على التغذية الراجعـة التي حصل عليها النموذج.

  

 

ومع ذلك، يخلط الكثيـرون بين مفهـومي الـ "MVP" وبين مفهوم آخر هو "النموذج الأوّلي" (Prototype). الأوّل يعني النسخة المكتملة من أساس المشروع التي تحمل قيمته الأساسية ويتم تأسيسها بأبسط الموارد، بينما الثاني يعني نسخة ابتدائية من المشروع ينقصها الكثير من الخصائص التي سيتم إلحاقها بها لاحقا. المُستهدف هنا هو الـ "MVP"، أي النسخة النهائية من المشروع التي تضم كافة خصائصه ولكن بأبسط شكل ممكن وبأقل موارد مُستخدمة. (2، 3، 4)

   

فلنتخيّل الـ MVP

 

 

 

 

 

 

فلنفتـرض مثلا أنك طبّاخ ماهر تطهو نوعية معينة من الوجبات ببراعة تجعل كل المحيطين بك يثنون على طعامك. بمرور الوقت يتكوّن لديك الدافع الطبيعي بإمكـانية افتتاح مطعم تقدم فيه وجباتك المميـزة، مدفوعا بآمال وأحلام كبيـرة بأن يتحوّل هذا المطعم إلى ماكدونالدز أو كنتاكي في المستقبل، وتدور علامته التجارية حول قارات العالم السبعة حاملة اسمك.

  

هنـا، مع وجود الفكـرة والدافع؛ فالمرجّح أنك سوف تندفع لولوج الطريق التقليدي المعتاد:

تبدأ في تجميع الأموال، ثم تقوم بتأجير أو شراء محل تقوم بتأثيثه لتحويله إلى مطعم صغير، وتكون مسؤولا عن إعداد الوجبـات والتسويق ودفع رواتب الطهاة والمساعدين ودفع فواتير الكهرباء والمياه الباهظة فضلا عن توفير مقاعد جيدة وإضاءة ممتازة وعروض ترويجية مكثفة. وبعد افتتاح المطعم، وبمرور الشهور تجد نفسك بصدد المفاجأة المؤلمة التي أشرنا إليها في بداية التقرير: لا يوجد زبائن، المطعم يتكبّد خسائر فادحة، الوجبات الرائعة التي تصنعها لا تجد إقبالا جيدا من الزبائن.

  

هذه هي الحالة الكلاسيكية المُعتادة التي تتسبب في إغلاق الكثير من المشروعات والشركات الناشئة. أنت قمت بإهدار وقت طويل وموارد طائلة لبدء الخطوة الأولى في مشروع لم تتأكد بعد أن السوق يحتاج إليه، وإنما قمت بهذه الخطوة بسبب اندفاع ذاتي من طرفك أقنعك أن الوجبات التي تقوم بصناعتها ممتازة وحتما ستجد رواجا لدى الناس بمجرد افتتاح المطعم. وقتئذ، وبعد أن قمت بافتتاح المشروع بالفعل ستكون كافة الاحتمالات صعبة: إما إعادة تطوير المشروع من الخطوة الأولى بعد خسائر كبيرة، أو تغيير النشاط، أو حتى اتخاذ القرار الصعب بإنهائه تجنبا لنزيف الخسائر.

Minimum Viable Product - Entrepreneurship 101 Vedio To See

أما الطريق الصحيح الموازي فسيكـون

مع إيمانك بقدرتك على الطهي، فأنت تعيد تعريف القيمة الأساسية التي تقدّمها بأنها ليست في "المطعم" وإنما في نوعية الطعام نفسها. ومن ثمّ فأنت لست في حاجة إلى افتتـاح "مطعم" كامل بموارد كبيـرة لتختبـر القيمة التي تقدّمها، بل يكفي تماما عربـة متنقّلة صغيـرة تقوم بتأسيسها بموارد شديدة البساطة، وتبدأ في توزيع الوجبات التي تصنعها على عدد محدود من الزبائن. بمرور الوقت ستبدأ في أخذ "التغذية الراجعة" (Feedback) على الوجبات التي تقدمها.

  

هنا، ستخرج من هذه الصيغة البسيطة لمشروعك التي تركز على "القيمة" بشكل أساسي بآراء ومردود إيجابي يساعدك على تصوّر نقاط القوة والضعف لديك. قد تكون التغذية الراجعـة النهائية تشير إلى أن الوجبات التي تقدّمها عادية للغاية وليست باهرة كما كنت تتصور، إلا أنها تتميّز فقط بنوع ما من أنواع البهارات أو التوابل أو أي إضافات على الطعام. وقتئذ، لن تكون في حاجة إلى تأسيس مطعم أصلا، وإنما سوف تتحول إلى توزيع التوابل والإضافات التي استخدمتها على المطاعم الأخرى، وبالتالي تبدأ في جني أرباح حقيقية من وراء مشروع لم تفكّـر أصلا في إطلاقه.

  

بمعنى آخر، إطلاقك لنسخة الـ "MVP" لمشروعك الناشئ ساعدك أولا على تجنّب تحمل مصروفات كبيرة وتجنّب خسائر متوقعة، وأيضا قام بتطوير مسار مشروعك إلى مسار آخر أكثر جذبا للأرباح وتوفيرا للوقت الذي كنت ستبذله على مدار سنوات لتكتشف هذا المسار. أنت قمت باختبار السوق بأقل موارد ممكنة وأنجح مردود ممكن، وبالتالي توجّهت إلى المجالات التي يحتاج إليها السوق فعلا، وليس بناء على اندفاع حماسي فردي من طرفك. (5)

 

دروب بوكس .. فلنأخذ الضوء الاخضر من الجمهور أولاً

 

في العام 2007، كان الزميلان الخريجان من معهد "MIT" دريو هيوستن وآرش فردوسي يعمـلان على تأسيس شركتهما الناشئة المتخصصة في مشاركة الملفـات سحابيا "دروب بوكس" (Dropbox) التي ذاع صيتها لاحقا كواحدة من أهم وأكبر الشركات التقنية في هذا المجال. إلا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة في تلك الفترة باعتبار أن وادي السيليكون كان يزخـر بالفعل بعدد كبير من المشروعات الناشئة التي تقوم بتصميم خدمات تخزين سحابية، وكان العثور على موطئ قدم من بين هذا العدد الهائل من المشروعات الواعدة أمرا صعبا.

  

كانت المشكلة التي تواجه دريو هوستن وقتئذ أنه في ظل هذه المنافسة فإنه سيتطلب أن يكون الدروب بوكس يقدم مزية تنافسية كبيرة سوف تستدعي بالضرورة المزيد من التطوير والتصاميم والأعباء المالية والفنية والتشغيلية المعقّدة والمكلفة لإنجازها. ولكن، في المقابل هل هذه التطويرات المُكلّفة التي سوف يتم العمل على إنجازها ستضمن نجاحها بالفعل بين جمهور المستخدمين، أم أنها ستكون جُهدا بلا طائل في سوق مزدحم بالفعل؟

  

كان الحل المميز الذي جاء به هيوستن، وظلّ حتى الآن واحدا من أروع أمثلة الـ "MVP" خلال السنوات الأخيرة، إذ قرر هيوستن إنهاء حيرته بإعلان نموذج الـ "MVP" لشركته الناشئة أمام الجمهور بشكل ذكي لجذب انتباههم وطلب مساعدتهم أيضا، حيث قام بصناعة فيديو بسيط مدته 4 دقائق نشره على منصة "هاكر نيوز" (Hacker News) التي يتابعها بشكل أساسي المستخدمون والمهتمون بالتقنية وريادة الأعمال والتي تدار بواسطة بول غراهام مؤسس حاضنة "Y Combinator" لتسريع الأعمال وذلك في أبريل/نيسان 2007.

   DropBox Demo

في الفيديو استعرض هيوستن ببساطة شديدة أمام المشاهدين كيف يمكن استخدام البرنامج الذي يقوم بتطويره -قبل طرحه للأسواق أصلا- وذلك بإظهـار خطوات استخدامه على جهازه الخاص. كان الفيديو سلسا ومباشرا ويخاطب الفئة المستهدفة بالضبط، ويطلب منهم بشكل مباشر أن يمدّوه بالأفكار والتعديلات والمساعدات التي من شأنها أن تجعله برنامجا جيدا بالنسبة لهم ويستحق أن يدفعوا من أجله.

  

كانت النتيجة تفاعلا واسعا للغاية مع الفيديو وتدفّق آلاف التعليقات التي تطرح أفكـارا تطويرية للخدمة، فضلا عن وصول عدد كبير من الرسائل الإلكترونية لمؤسسي الشركة يشرح فيها جمهور المستخدمين المزيد من الإمكانيات التي إذا تم تطبيقها في الخدمة فستكون أكثر سهولة وأكثر إغراء لهم بالدفع للحصول عليها. كانت هذه الخطوة بعرض نموذج الـ "MVP" المُبسّط للجمهـور بشكل واضح طلبا لمساعدتهم لتطويره قبل إنزاله للسوق بمنزلة ضوء أخضر لمؤسسي الشركة ليس من المطوّرين أو المستثمـرين أو مستشارين فنيين، وإنما من أهم عنصـر في المعادلة كلها وهو: المُستخدم نفسه. (7، 8، 9)

   

موقع بسيط يتحوّل الى متجر اليكتروني عالمي

في العام 2009، أعلنت شركة "أمازون" عملاق التجارة الإلكترونية عن استحواذها على شركة "زابّوس" (Zappos) المتخصصة في التجارة الرقمية أيضا في مجال بيع الأحذية، وذلك بمبلغ ضخم قُدّر بـ 1.2 مليار دولار. كانت هذه الصفقة من أكبر الصفقات التي عقدتها أمازون في العقد الأول من الألفية انطلاقا من مخطط الاستحواذ على أهم وأكبر المتاجر الإلكترونية الناشئة بعد تزايد معدلات التجارة الرقمية بشكل متسارع عالميا.

 

الواقع أن "زابّوس" (Zappos) تحديدا يعد واحدا من أهم وأشهر الأمثلة بخصوص الشركات التي بدأت مشوارها بنموذج أوّلي "MVP" شديد التواضع، تحول لاحقا إلى شركة ناشئة سريعة النمو استطاعت خلال 10 سنوات فقط أن تلفت أنظار الشركات العملاقة ويتم الاستحواذ عليها بهذا المبلغ الضخم. البداية كانت في العام 1999 عندما كان نيك سوينمـورن (Nick Swinmurn) مؤسس الشركة يبحث في أحد المجمعات التجارية عن زوج من الأحذية المناسب له، ووجد صعوبة كبيرة في تحديد الحذاء الذي يرغب في شرائه.

  

في ذلك الوقت، كان الإنترنت يحقق نموا جنونيا في العالم، فقفزت الفكـرة في عقل نيك سوينمـورن: هل يمكن أن يتم افتتاح متجر إلكتروني لبيع الأحذية؟ هل سيجد هذا المتجر إقبالا من الناس بدلا من اضطـرارهم للنزول والبحث بأنفسهم في المتاجر المختلفة لتحديد الحذاء المناسب؟ وعلى الرغم من أنها فكـرة تبدو ناجحة تماما ولا تحتاج إلى اختبار -في تلك الفتـرة- للتأكد من نجاحها، فإن سوينمـورن قرر عمل نموذج أوّلي شديد البساطة لم يكلّفه أي شيء تقريبا. قام سوينمـورن بإطلاق موقع إلكتروني شديد البساطة، وذهب يتردد على متاجر الأحذية ويقوم بتصوير الأحذية ويرفع الصور على موقعه، وبجانب كل زوج من الأحذية يضع سعــره ومواصفاته. كان الهدف من وراء هذا النموذج هو أن يستشف مدى إقبال العملاء على شراء الأحذية إلكتـرونيا، ففوجئ بالعديد من العملاء قاموا بالفعل بالضغط على زر "الشراء" وهو ما جعله يقوم بالذهاب لشراء الأحذية على حسابه الشخصي من المتاجر ثم شحنها إلى العمـلاء بعد أن يقوموا بالدفع.

  

 

هنا أدرك سوينمـورن من خلال نموذج "MVP" شديد البساطة "موقع إلكتروني بسيط يرفع عليه صور الأحذية" أنه بإمكـانه تطويره ليتحول إلى متجر إلكتروني متكامل يضم خدمة عملاء ومتابعات فنية، وهو ما استطاع أن يحققه لاحقا بالحصول على تمويلات كبيـرة أدت إلى صعود متجر "زابّوس" (Zappos) كواحد من أفضل المتاجر الإلكترونية سريعة الانتشار وانتهت بشرائها بواسطة أمازون بصفقة كبيرة. (7، 8، 10، 11)

   

في النهاية، نموذج الـ "MVP" كان سببا في تحوّل عدد كبير من الشركات الناشئة إلى شركات عملاقة، بدءا من شركات مثل "بافر" (Buffer) و"جروبون" (Groupon) ومرورا بـ "كيك ستارتر" (kick starter) و"أوبر" وليس انتهاء بـ "فيسبوك" و"تويتر" و"إي باي" (eBay). وهو النموذج نفسه الذي عليك أن تستهدفه في المراحل الأولى لإطلاق شركتك -مهما كان المجال الذي تستهدفه- لأنه سيمنحك الحُسنيين: تقليل الخسائر وتعظيم فرص النجاح في السوق.